مهما تحدثنا وطال الكلام لن نستطيع أن نوفيها حقها، فهي جوهرة ثمينة وبحر لا ينضب، ولغة مقدسة نزل بها القرآن الكريم إنها لغة الضاد ... وكيف لا نفتخر بها وهي ركن أساسي من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي لغة السياسة والعلم والأدب، وإحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم. وبالرغم من كل التحديات التي واجهتها كسياسات التتريك والفرنسة وكذلك العولمة والرقمنة والذكاء الاصطناعي والتي بطبيعة الحال تواجه أي لغة فقد بقيت حاضرة بأصالتها ومرونتها وقدرتها على التطور. ومع اقتراب الاحتفال باليوم العالمي لها والذي يصادف في الثامن عشر من كانون الأول، سنلقي الضوء على أول من نادى باتخاذ يوم للغة العربية وسنتحدث عن رحلتها حتى تحقيق ذلك. سورية أول من طالب بالاحتفال باللغة العربية كلغة عالمية في إطار دعم وتعزيز تعدد اللغات والثقافات في الأمم المتحدة، اعتمدت إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي قراراً عشية الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم بالاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة، وبناءً على ذلك تقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول كونه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190 (د-28) المؤرخ 18 كانون الأول 1973 المعني بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. ومن الجدير بالذكر أن أول من نادى وطالب باتخاذ يوم للغة العربية والاحتفال بها هو الأستاذ الدكتور "جورج جبور" حيث طالب الدول العربية بأن تعلن يوماً يسمى اللغة العربية، في محاضرته "التنافس اللغوي والعالمي" التي ألقاها في معهد اللغات بجامعة حلب في تاريخ 2006/3/15. وفي اتصال أجريناه معه أوضح لنا كيف راوده هذا الأمر، وما سبب مطالبته بيوم للغة العربية، وكانت إجابته بحادثة جرت معه أثناء إلقائه محاضرة في معهد اللغات في حلب. فعند وصوله مساء 14 آذار2006 إلى فندق "بولمان الشام" الذي تستضيف به جامعة حلب مدعويها، وجد بهو الفندق غارقاً في مختلف أنواع الزينة، وقد اعتقد أنه حفل زفاف لأحد أغنياء حلب، ولكن موظفة الاستقبال قالت له بأنه عرس الفرانكوفونية، وعندها لمعت في ذهنه فكرة "لماذا لا يكون هناك عرس للغتي أيضاً، أريد يوماً للغة العربية" وقد كان يأمل أن يكون اليوم هو يوم بدء التنزيل الشريف الذي نزلت فيه أول آية كريمة "اقرأ". وبعد أيام قليلة كتب نصاً مكتوباً متضمناً هذا الطلب، وأرسله عن طريق الفاكس إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى آنذاك وفي وهلة انتهاء القمة العربية كان هناك تصريح للسيد عمرو موسى يقول فيه : "إن القمة القادمة في الرياض سوف تبحث لأول مرة موضوع حال اللغة العربية". ويكمل الدكتور جبور حديثه بأنه حاضر في بيروت بتاريخ 20 آذار 2012 محاضرة بعنوان "بدء التنزيل الشريف يوماً عالمياً للغة العربية" وقد نادى مجدداً باتخاذ يوم بدء التنزيل الشريف يوماً عالمياً للغتنا العربية. وعند سؤاله عن شعوره عندما تحققت أمنيته بالاحتفال بلغتنا الأم، أجابنا أنه كان سعيداً بتخصيص يوم عالمي للغة، ولكنه حزين بسبب اختيار يوم 18 كانون الأول الذي لا يرتبط بتاريخنا العربي والإسلامي، متسائلاً "هل عرف العرب الرموز الثقافية للأيام الأخرى قبل أن يوافقوا على موعد لا رمزاً ثقافياً عربياً فيه؟ لا أدري.." وقد تمنى جاهداً أن يتم تغيير الموعد ليكون في أول آذار ذكرى نزول القرآن الكريم، وخاصةً أن كل الاحتفالات بباقي اللغات الرسمية مرتبطة بتاريخ ثقافي ذاتي لديهم. رحلة اللغة العربية حتى تاريخ الاحتفال بها رسمياً أسفرت الجهود المبذولة منذ خمسينات القرن الماضي عن صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 878 الدورة التاسعة المؤرخ في 4 كانون الأول 1954، يجيز الترجمة التحريرية فقط إلى اللغة العربية، وبشكل مقيد، وبشرط أن تدفع الدولة التي تطلبها تكاليف الترجمة، وعلى أن تكون هذه الوثائق ذات طبيعة سياسية أو قانونية تهم المنطقة العربية. وفي عام 1960 اتخذت اليونسكو قراراً يقضي باستخدام اللغة العربية في المؤتمرات الإقليمية التي تُنظَّم في البلدان الناطقة بالعربية وبترجمة الوثائق والمنشورات الأساسية إلى العربية. واعتُمد في عام 1966 قراراً يقضي بتعزيز استخدام اللغة العربية في اليونسكو، وتقرر تأمين خدمات الترجمة الفورية إلى العربية ومن العربية إلى لغات أخرى. وفي عام 1968 تم اعتماد العربية تدريجياً كلغة عمل في المنظمة مع البدء بترجمة وثائق العمل والمحاضر الحرفية وتوفير خدمات الترجمة الفورية إلى العربية. وقد استمر الضغط الدبلوماسي العربي، إلى أن تمكنوا من جعل العربية تُستعمل كلغة شفوية خلال انعقاد دورات الجمعية العامة في أيلول 1973. وبعد إصدار جامعة الدول العربية في دورتها الستين قراراً يقضي بجعل اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة وباقي هيئاتها، ترتب عنه صدور قرار الجمعية العامة رقم 3190 خلال الدورة 28 في كانون الأول 1973 يوصي بجعل اللغة العربية لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها. وفي عام 1974 أدرجت اللغة العربية كلغة عمل في دورات المجلس التنفيذي. وفي تشرين الأول 2012 عند انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لليونسكو تقرر تكريس يوم 18 كانون الأول يوماً عالمياً للغة العربية، واحتفلت اليونيسكو في تلك السنة للمرة الأولى بهذا اليوم، وفي 23 تشرين الأول 2013 قررت الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية (أرابيا) التابعة لليونسكو اعتماد اليوم العالمي للغة العربية كإحدى العناصر الأساسية في برنامج عملها لكل سنة. وقد تفاعلت منصات ومنظمات عالمية مع اليوم العالمي للعربية، منها منظمة الأمم المتحدة واليونسكو، مشيدين بأهمية اللغة العربية حيث اعتبروها واحدة من أهم اللغات العالمية. وأثنت منظمة اليونسكو عبر موقعها الرسمي على مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية، وسلطت الضوء على إسهاماتها في تعزيز التنوع الثقافي. وغرد حساب الأمم المتحدة عبر تويتر ببيت شعر لأحمد شوقي جاء فيه "إن الذي ملأ اللغات محاسناً .... جعل الجمال وسره في الضاد". وأخيراً يتوجب علينا ألا نكتفي بالتغني بأمجاد اللغة العربية الماضية فحسب، بل أن نسعى لتحقيق إنهاضها، وذلك في بناء مجتمع معرفي عربي يجمع بين الأصالة والمعاصرة المنفتحة على عالم المعارف والعلوم والآداب الحديثة، ولاسيما أن ارتباط اللغة العربية بمسألة الهوية يجعل منها قضية مجتمعية لا تقتصر على المتخصصين بها وحدهم، ومنه يترتب على الجميع الاهتمام بالفكر والمعرفة وهو ما ينعكس إيجاباً على اللغة العربية.